فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالواْ} إلى قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 3 4] وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع، لأنه لو وجب لوجب، إما مع الكفر وهو باطل بالإجماع، أو بعد الإيمان وهو باطل، لقوله عليه السلام: «الإسلام يجب ما قبله» والجواب: عن الأول من وجوه أحدها: أن قوله: {مِّنكُمْ} خطاب مشافهة فيتناول جميع الحاضرين، فلم قلتم: إنه مختص بالمؤمنين؟ سلمنا أنه مختص بالمؤمنين، فلم قلتم: إن تخصيصه بالمؤمنين في الذكر يدل على أن حال غيرهم بخلاف ذلك، لاسيما ومن مذهب هذا القائل: أن التخصيص بالذكر لا يدل على أن حال ما عداه بخلافه، سلمنا بأنه يدل عليه، لكن دلالة المفهوم أضعف من دلالة المنطوق، فكان التمسك بعموم قوله: {والذين يظاهرون} أولى، سلمنا الاستواء في القوة، لكن مذهب أبي حنيفة أن العام إذا ورد بعد الخاص كان ناسخًا للخاص، والذي تمسكنا به وهو قوله: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] متأخر في الذكر عن قوله: {الذين يظاهرون مِنكُمْ} والظاهر أنه كان متأخرًا في النزول أيضًا لأن قوله: {الذين يظاهرون مِنكُمْ} ليس فيه بيان حكم الظهار، وقوله: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} فيه بيان حكم الظهار، وكون المبين متأخرًا في النزول عن المجمل أولى والجواب عن الثاني من وجوه الأول: أن لوازمه أيضًا أنه متى عجز عن الصوم اكتفى منه بالإطعام فهاهنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفى منه بالإطعام، وإن لم يتحقق العجز فقد زال السؤال، والثاني: أن الصوم يدل عن الإعتاق، والبدل أضعف من المبدل، ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره، فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب المنع، مع صحة الظهار، ففوات أضعف اللازمين كيف يمنع من القول بصحة الظهار الثالث: قال القاضي حسين من أصحابنا إنه يقال: إن أردت الخلاص من التحريم، فأسلم وصم، أما قوله عليه والسلام: «الإسلام يجب ما قبله» قلنا: إنه عام، والتكليف بالتكفير خاص، والخاص مقدم على العام، وأيضًا فنحن لا نكلفه بالصوم بل نقول: إذا أردت إزالة التحريم فصم، وإلا فلا تصم.
المسألة الثانية:
قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك رحمهم الله: لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو أن تقول المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي، وقال الأوزاعي: هو يمين تكفرها، وهذا خطأ لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين، وهو الأصل فكيف يلزم المرأة ذلك؟ ولأن الظهار يوجب تحريمًا بالقول، والمرأة لا تملك ذلك بدليل أنها لا تملك الطلاق.
المسألة الثالثة:
قال الشافعي وأبو حنيفة إذا قال أنت علي كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضي اليوم، وقال مالك وابن أبي ليلى، هو مظاهر أبدًا لنا أن التحريم الحاصل بالظهار قابل للتوقيت وإلا لما انحل بالتفكير، وإذا كان قابلًا للتوقيت، فإذا وقته وجب أن يتقدر بحسب ذلك التوقيت قياسًا على اليمين، فهذا ما يتعلق من المسائل بقوله تعالى: {الذين يظاهرون}، أما قوله تعالى: {مِن نّسَائِهِمْ} فيتعلق به أحكام المظاهر منه، واختلفوا في أنه هل يصح الظهار عن الأمة؟ فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يصح، وقال مالك والأوزاعي: يصح، حجة الشافعي أن الحل كان ثابتًا، والتكفير لم يكن واجبًا، والأصل في الثابت البقاء، والآية لا تتناول هذه الصورة لأن قوله: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] يتناول الحرائر دون الإماء، والدليل عليه قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] والمفهوم منه الحرائر ولولا ذلك لما صح عطف قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وقال تعالى: {وأمهات نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] فكان ذلك على الزوجات دون ملك اليمين.
المسألة الرابعة:
فيما يتعلق بهذه الآية من القراءات، قال أبو علي: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر: {والذين يظاهرون} بغير الألف، وقرأ عاصم: {يظاهرون} بضم الياء وتخفيف الظاء والألف، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {يظاهرون} بفتح الياء وبالألف مشددة الظاء، قال أبو علي: ظاهر من امرأته، ظهر مثل ضاعف وضعف، وتدخل التاء على كل واحد منهما فيصير تظاهر وتظهر، ويدخل حرف المضارعة فيصير يتظاهر ويتظهر، ثم تدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها، فيصير يظاهر ويظهر، وتفتح الياء التي هي حرف المضارعة، لأنها للمطاوعة كما يفتحها في يتدحرج الذي هو مطاوع، دحرجته فتدحرج، وإنما فتح الياء في يظاهر ويظهر، لأنه المطاوع كما أن يتدحرج كذلك، ولأنه على وزنهما، وإن لم يكونا للإلحاق، وأما قراءة عاصم {يظاهرون} فهو مشتق من ظاهر يظاهر إذا أتى بمثل هذا التصرف.
المسألة الخامسة:
لفظة: {مِنكُمْ} في قوله: {الذين يظاهرون مِنكُمْ} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصة دون سائر الأمم، وقوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قرأ عاصم في رواية المفضل: {أمهاتهم} بالرفع والباقون بالنصب على لفظ الخفض، وجه الرفع أنه لغة تميم، قال سيبويه: وهو أقيس الوجهين، وذلك أن النفي كالاستفهام فكما لا يغير الاستفهام الكلام عما كان عليه، فكذا ينبغي أن لا يغير النفي الكلام عما كان عليه، ووجه النصب أنه لغة أهل الحجاز والأخذ في التنزيل بلغتهم أولى، وعليها جاء قوله: {مَا هذا بَشَرًا} [يوسف: 31] ووجهه من القياس أن ما تشبه ليس في أمرين أحدهما: أن: (ما) تدخل على المبتدأ والخبر، كما أن (ليس) تدخل عليهما والثاني: أن (ما) تنفي ما في الحال، كما أن (ليس) تنفي ما في الحال، وإذا حصلت المشابهة من وجهين وجب حصول المساواة في سائر الأحكام، إلا ما خص بالدليل قياسًا على باب مالا ينصرف.
المسألة الثانية:
في الآية إشكال: وهو أن من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فهو شبه الزوجة بالأم، ولم يقل: إنها أم، فكيف يليق أن يقال على سبيل الإبطال لقوله: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} وكيف يليق أن يقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا} والجواب: أما الكذب إنما لزم لأن قوله: أنت علي كظهر أمي، إما أن يجعله إخبارًا أو إنشاء وعلى التقدير الأول أنه كذب، لأن الزوجة محللة والأم محرمة، وتشبيه المحللة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب، وإن جعلناه إنشاء كان ذلك أيضًا كذبًا، لأن كونه إنشاء معناه أن الشرع جعله سببًا في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه، كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم يكون كذبًا وزورًا، وقال بعضهم: إنه تعالى إنما وصفه بكونه: {مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا} لأن الأم محرمة تحريمًا مؤبدًا، والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريمًا مؤبدًا، فلا جرم كان ذلك منكرًا من القول وزورًا، وهذا الوجه ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء لا يقتضي وقوع المشابهة بينهما من كل الوجوه، فلا يلزم من تشبيه الزوجة بالأم في الحرمة تشبيهها بها في كون الحرمة مؤبدة، لأن مسمى الحرمة أعم من الحرمة المؤبدة والمؤقتة.
قوله تعالى: {إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا} أما الكلام في تفسير لفظة اللائي، فقد تقدم في سورة الأحزاب عند قوله: {وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائي تظاهرون} [الأحزاب: 4] ثم في الآية سؤالان: وهو أن ظاهرها يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة، وهذا مشكل، لأنه قال في آية أخرى: {وأمهاتكم الْلاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وفي آية أخرى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] ولا يمكن أن يدفع هذا السؤال بأن المعنى من كون المرضعة أمًا، وزوجة الرسول أمًا، حرمة النكاح، وذلك لأنا نقول: إن بهذا الطريق ظهر أنه لا يلزم من عدم الأمومة الحقيقية عدم الحرمة، فإذًا لا يلزم من عدم كون الزوجة أمًا عدم الحرمة، وظاهر الآية يوهم أنه تعالى استدل بعدم الأمومة على عدم الحرمة، وحينئذ يتوجه السؤال والجواب: أنه ليس المراد من ظاهر الآية ما ذكره السائل بل تقدير الآية كأنه قيل: الزوجة ليست بأم، حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة، ولم يرد الشرع بجعل هذا اللفظ سببًا لوقوع الحرمة حتى تحصل الحرمة، فإذًا لا تحصل الحرمة هناك ألبتة فكان وصفهم لها بالحرمة كذبًا وزورًا.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إما من غير التوبة لمن شاء كما قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} أو بعد التوبة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}
{سمع الله} عبارة عن إدراكه المسموعات على ما هي ما عليه بأكمل وجوه ذلك دون جارحة ولا محاداة ولا تكييف ولا تحديد تعالى الله عن ذلك.
وقرأ الجمهور: {قد سمع} بالبيان: وقرأ ابن محيصن: {قد سمع} بالإدغام، وفي قراءة ابن مسعود: {قد يسمع الله قول التي}، وفيها: {والله قد يسمع تحاوركما}.
واختلف الناس في اسم التي تجادل، فقال قتادة هي خويلة بنت ثعلبة، وقيل عن عمر بن الخطاب أنه قال: هي خولة بنت حكيم. وقال بعض الرواة وأبو العالية هي خويلة بنت دليج، وقال المهدوي، وقيل: خولة بنت دليج، وقالت عائشة: هي خميلة. وقال ابن إسحاق: هي خولة بنت الصامت. وقال ابن عباس فيها: خولة بنت خويلد، وقال محمد بن كعب القرظي ومنذر بن سعيد: هي خولة بنت ثعلبة، قال ابن سلام: (تجادل) معناه تقاتل في القول، وأصل الجدل القتل، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة: أوس بن الصامت أو عبادة بن الصامت. وحكى النقاش وهو في المصنفات حديثا عن سلمة بن صخر البياضي «أنه ظاهر من امرأته أن واقعها مدة شهر رمضان فواقعها ليلة فسأل قومه أن يسألوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا وهابوا ذلك وعظموا عليه، فذهب هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسأله واسترشدوه فنزلت الآية. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعتق رقبة؟ فقال له والله ما أملك رقبة غير رقبتي، فقال: أتصوم شهرين متتابعين؟ فقال يا رسول الله وهل أتيت إلا في الصوم، فقال: تطعم ستين مسكينًا؟ فقال: لا أجد، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه فكفر بها فرجع سلمة إلى قومه فقال: إني وجدت عندكم الشدة والغلظة، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرخصة والرفق وقد أعطاني صدقاتكم».
وأما ما رواه الجمهور في شأن أوس بن الصامت، فاختصاره: أن أوسًا ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد، وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤيدة، قاله أبو قلابة وغيره، فلما فعل ذلك أوس، جاءت زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أوسًا أكل شبابي، ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي، ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»، فقالت يا رسول الله: لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته، فراجعته، فهذا هو جدالها، وكانت في خلال جدالها تقول: اللهم إليك أشكو حالي وفقري وانفرادي إليه، وروي أنها كانت تقول: اللهم إن لي منه صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فهذا هو اشتكاؤها إلى الله، فنزل الوحي عند جدالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات.
وكانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول: «سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي، وسمع الله جدالها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له: أتعتق رقبة؟ فقال والله ما أملكها، فقال أتصوم شهرين متتابعين؟ فقال: والله ما أقدر أن أصبر إلا على أكلات ثلاث في اليوم، ومتى لم أفعل ذلك غشي بصري فقال له: أتطعم؟ فقال له لا أجد إلا أن تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعًا ودعا له، وقيل بثلاثين صاعًا، فكفر بالإطعام وأمسك أهله».
وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {تحاورك في زوجها}، والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {يظهرون}، وقرأ أبي بن كعب بخلاف عنه: {يتظهرون}. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {يظاهرون}. وقرأ أبي بن كعب أيضًا: {يتظاهرون}. وقرأ عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة: {يُظاهرون} بضم الياء من قولك فاعل، وهذه مستعملة جدًا وقولهم الظهار دليل عليها، والمراد بهذا كله قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، يريد في التحريم كأنها إشارة إلى الركوب، إذ عرفه في ظهور الحيوان، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، فرد الله بهذه الآية فعلهم، وأخبر بالحقيقة من أن الأم هي الوالدة، وأما الزوجة فلا يكون حكمها حكم الأم.